فصل: تفسير الآية رقم (18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً‏}‏ تقدم الكلام في نظيره غير بعيد ‏{‏فَيَحْلِفُونَ لَهُ‏}‏ أي لله تعالى يومئذٍ قائلين‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏}‏ في الدنيا أنها مسلمون مثلكم، والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناءاً على ما قدمنا من سبب النزول ‏{‏وَيَحْسَبُونَ‏}‏ في الآخرة ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بتلك الأيمان الفاجرة ‏{‏على شَىْء‏}‏ من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية ‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون‏}‏ البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه عز وجل كما تروّجه عند المؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان‏}‏ أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستولياً عليهم، وقال الراغب‏:‏ الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال‏:‏ حاذ الإبل يحوذها أي ساقها سوقاً عنيفاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان‏}‏ أي استقاهم مستولياً عليهم، أو من قولهم‏:‏ استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها اه‏.‏

وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع، وفي «القاموس» تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الاستيلاء، ومثله الأحواذ والأحوذي، وهو كما قال الأصمعي‏:‏ المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء، ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما كان أحوذياً نسيج وحده مأخوذ من ذلك، واستحوذ مما جاء على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفاً كما سمع فيه قليلاً، وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفاً للقياس كاستنوق‏.‏ واستصوب وإن وافق الاستعمال المشهور فيه، ولذا لم يخل استعماله بالفصاحة، وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل ‏{‏فأنساهم ذِكْرَ الله‏}‏ في معنى لم يمكنهم من ذكره عز وجل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلاً لا بقلوبهم ولا بألسنتهم ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بما ذكر من القبائح ‏{‏حِزْبُ الشيطان‏}‏ أي جنوده وأتباعه‏.‏

‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون‏}‏ أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايفين معاً في موقع الإضمار بأحد الوجهين، وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبر عنهم بالموصول ذماً لهم بما في حيز الصلة وإشعاراً بعلة الحكم ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بما ذكر ‏{‏فِى الاذلين‏}‏ أي في جملة من هو أذل خلق الله عز وجل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عز وجل غير متناهية كانت ذلة من حادّة كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏كتاب الله‏}‏ استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم، وعن قتادة قال‏:‏ وأياً مّا كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالباً فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح‏.‏ وقوم صالح‏.‏ وقوم لوط‏.‏ وغيرهم، والحرب بين نبينا صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالاً إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام وكذا لأتباعهم بعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصاً لله عز وجل لا لطلب ملك وسلطنة وأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهداً كذلك إلا منصوراً غالباً، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لاطرادها وهو خلاف الظاهر، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين‏.‏ والطائف‏.‏ وخيبر وما حولها قالوا‏:‏ نرجوا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبيّ‏:‏ أتظنون الروم‏.‏ وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله أنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت ‏{‏كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ‏}‏ على نصر رسله ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ لا يغلب على مراده عز وجل‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر ‏{‏وَرُسُلِى‏}‏ بفتح الياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له، و‏{‏تَجِدُ‏}‏ إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُوَادُّونَ‏}‏ الخ مفعوله الثاني، وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة، وقيل‏:‏ صفة أخرى له أي قوماً جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبين موادّة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وليس بذاك، والكلام على ما في «الكشاف» من باب التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادّون المشركين، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله تعالى، وحاصل هذا على ما في «الكشف» أنه من فرض غير الواقع واقعاً محسوساً حيث نفى الوجدان على الصفة، وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان، وإنما الواقع نفي الانبغاء فخيل أنه هو فالتصوير في جعل ما لا يمتنع ممتنعاً، وقيل‏:‏ المراد لا تجد قوماً كاملي الإيمان على هذه الحال، فالنفي باق على حقيقته، والمراد بموادة المحادّين موالاتهم ومظاهرتهم، والمضارع قيل‏:‏ لحكاية الحال الماضية، و‏{‏مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ ظاهر في الكافر؛ وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق، والأخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان‏:‏ يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان، وفي حديث طويل أخرجه الطبراني‏.‏ والحاكم‏.‏ والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعاً ‏"‏ يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي ‏"‏‏.‏

وأخرج أحمد‏.‏ وغيره عن البراء بن عازب مرفوعاً ‏"‏ أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله ‏"‏‏.‏

وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم لا تجعل لفاجر وفي رواية ولا لفاسق علي يداً ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيت إلي ‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏"‏ وحكى الكواشي عن سهل أنه قال‏:‏ من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله تعالى حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضاً منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب انتهى‏.‏

ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة وليس منهم ولا قلامة ظفر يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول‏:‏ سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته إن كانت بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته، وهذا لعمري هو الضلال البعيد، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ‏}‏ أي من حادّ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبل باعتبار لفظها ‏{‏ءابَاءهُمُ‏}‏ أي الموادين ‏{‏أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ فإن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة، وليس المراد بمن ذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقاً، وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم‏:‏

أخاك أخاك إن من لا أخا له *** كساع إلى الهيجاء بغير سلاح

وختم بالعشيرة لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالباً‏:‏

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذاً لقام بنصري معشر خشن *** عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا

وقرأ أبو رجاء وعشائرهم بالجمع ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الذين لا يوادونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحماً بهم وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏

‏{‏كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ‏}‏ أي أثبته الله تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولاً ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبدأ بالمنتهى للتأكيد والمبالغة، وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعاً، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏.‏ والمفضل عن عاصم ‏{‏إِنَّ كتاب‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏الايمان‏}‏ بالرفع على النيابة عن الفاعل‏.‏

‏{‏وَأَيَّدَهُمْ‏}‏ أي قواهم ‏{‏بِرُوحٍ مّنْهُ‏}‏ أي من عنده عز وجل على أن من ابتدائية، والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق، وتسميته روحاً مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية، وجوز كونه استعارة، وقول بعض الأجلة‏:‏ إن نور القلب ما سماه الأطباء روحاً وهو الشعاع اللطيف المتكون في القلب وبه الإدراك فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى، أو المراد به القرآن على الاحتمالين السابقين، واختيرت الاستعارة أو جبريل عليه السلام وذلك يوم بدر، وإطلاق الروح عليه شائع أقوال‏.‏

وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏فِيهِ‏}‏ للإيمان، والمراد بالروح الإيمان أيضاً، والكلام على التجريد البديعي فمن بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها، وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر؛ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُدْخِلُهُمُ‏}‏ الخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة‏.‏

‏{‏جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا‏}‏ أبد الآبدين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّضِىَ الله عَنْهُمْ‏}‏ استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عز وجل العاجلة والآجلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلاً وآجلاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله‏}‏ تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون‏}‏ بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين، والكلام في تحلية الجملة بإلا‏.‏ وإن على ما مر في أمثالها، والآية قيل‏:‏ نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه‏.‏

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال‏:‏ حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أفعلت يا أبا بكر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ لا تعد، قال‏:‏ والله لو كان السيف قريباً مني لضربته وفي رواية لقتلته فنزلت ‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً‏}‏ الآيات‏.‏

وقيل‏:‏ في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح، أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ وأبو نعيم في «الحلية»‏.‏ والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال‏:‏ جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت ‏{‏لاَّ تَجِدُ‏}‏ الخ، وفي «الكشاف» أن أبا عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقال الواقدي في قصة قتله إياه‏:‏ كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالاً من بني فهر فقالوا‏:‏ توفي أبوه قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الإسلام انتهى‏.‏

والحق أنه قتله في بدر، أخرج البخاري‏.‏ ومسلم عن أنس قال‏:‏ كان أي أبو عبيدة قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته، وقيل‏:‏ نزلت فيه حيث قتل أباه‏.‏ وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ دعني أكون في الرعلة الأولى وهي القطعة من الخيل قال‏:‏

«متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد‏.‏ وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر‏.‏ وفي علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وحمزة‏.‏ وعبيدة بن الحرث قتلوا عتبة‏.‏ وشيبة ابني ربيعة‏.‏ والوليد بن عتبة يوم بدر‏.‏

وتفصيل ذلك ما رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز إلى قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحرث» فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة‏.‏

هذا ورتب بعض المفسرين ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ على قصة أبي عبيدة‏.‏ وأبي بكر‏.‏ ومصعب‏.‏ وعلي كرم الله تعالى وجهه ومن معه، وقيل‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً‏}‏ الخ نزل في حاطب بن أبي بلتعة، والظاهر على ما قيل‏:‏ إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود؛ وأياً مّا كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى، والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة الحشر‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الارض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 6‏]‏ وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد، وكرر الموصول ههنا لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم‏}‏ بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق، والمراد بالذين كفروا بنو النضير بوزن الأمير وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة، ويقال للحيين‏:‏ الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في «البحر»، ويقال‏:‏ إنهم نزلوا قريباً من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظاراً لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى‏.‏

وقيل‏:‏ إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق، وقال لهم‏:‏ لا تستحيوا منهم أحداً فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل‏:‏ أنتم عصاة الله تعالى والله لادخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ماكان، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى، والجار الأول‏:‏ متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب، والثاني‏:‏ متعلق بأخرج وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا، وضمير ‏{‏هُوَ‏}‏ راجع إليه تعالى بعنوان العزة والحكمة إما بناءاً على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام، أو على جعلن مستعاراً لاسم الإشارة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏ أي بذلك فكأنه قيل‏:‏ ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج الخ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاِوَّلِ الحشر‏}‏ متعلق بأخرج واللام لام التوقيت كالتي في قولهم‏:‏ كتبته لعشر خلون، ومآلها إلى معنى في الظرفية، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا‏:‏ إنها بمعنى في إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات، وقيل‏:‏ إنها للتعليل وليس بذاك، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناءاً على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام، وقيل‏:‏ آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام‏.‏

وعن عكرمة من شك أن المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى لأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضاً ليتم التقابل، وهو يوم القيامة من القبور، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة؛ وفي «البحر» عن عكرمة‏.‏ والزهري أنهما قالا‏:‏ المعنى الأول موضع الحشر وهو الشام، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ «اخرجوا قالوا‏:‏ إلى أين‏؟‏ قال‏:‏ إلى أرض المحشر» ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضاً، وقيل‏:‏ آخر حشرهم أن ناراً تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره، وهو كما ترى، وقيل‏:‏ المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى، ولذا قيل‏:‏ إنه الظاهر؛ وتعقب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضاً ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حماراً مخطوماً بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر، وقيل‏:‏ لأول جمعهم للمقاتلة مع المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعاً من ذوي الأرواح لا غير، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام، وأما الآن فقد نسخت، ولا يجوز إلا القتل‏.‏ أو السبي‏.‏ أو ضرب الجزية ‏{‏مَا ظَنَنتُمْ‏}‏ أيها المسلمو ‏{‏أَن يَخْرُجُواْ‏}‏ لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم‏.‏

‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله‏}‏ أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى فحصونهم مبتدأ، ‏{‏ومانعتهم‏}‏ خبر مقدم، والجملة خبر ‏{‏حَمِيمٍ ءانٍ‏}‏ وكان الظاهر لمقابلة ‏{‏مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ‏}‏ وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في «النظم الجليل» للإشعار بتفاوت الظنين، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجىء بمانعتهم‏.‏ وحصونهم مقدماً فيه الخبر على المبتدأ؛ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، فجىء بضمير هم وصير اسماً لأن وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوّى على ما في «الكشف»‏.‏

وشرح الطيبي، وفي كون ذلك من باب التقوّى بحث، ومنع بعضهم جواز الإعراب السابق بناءاً على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلاً، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون ‏{‏حُصُونُهُم‏}‏ فاعلاً لمانعتهم لاعتماده على المبتدأ‏.‏

وجوز كون ‏{‏مَّانِعَتُهُمْ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏حُصُونُهُم‏}‏، وتعقب بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل، وكانت ‏{‏حُصُونُهُم‏}‏ على ما قيل‏:‏ أربعة الكتيبة‏.‏ والوطيح‏.‏ والسلالم‏.‏ والنطاة، وزاد بعضهم الوخدة وبعضهم شقا، والذي في «القاموس» أنه موضع بخيبر أو واد به ‏{‏فاتاهم الله‏}‏ أي أمره سبحانه، وقدره عز وجل المتاح لهم ‏{‏مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ‏}‏ ولم يخطر ببالهم؛ وهو على ما روي عن السدي‏.‏ وأبي صالح‏.‏ وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏ءاتاهم‏}‏ و‏{‏لَمْ يَحْتَسِبُواْ‏}‏ للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، وفيه تفكيك الضمائر‏.‏

وقرىء فآتاهم الله، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين‏.‏ ثانيهما محذوف أي فآتاهم الله العذاب أو النصر ‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذا ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم‏.‏

‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب ‏{‏وَأَيْدِى المؤمنين‏}‏ حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التحريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم، وبهذا الاعتبار عطفت ‏{‏أَيْدِىَ المؤمنين‏}‏ على أيديهم وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم فيخربون على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير ‏{‏قُلُوبِهِمْ‏}‏ أو لا محل لها من الإعراب، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب‏؟‏ أو معه‏.‏

أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها‏.‏

وقرأ قتادة‏.‏ والجحدري‏.‏ ومجاهد‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏يُخْرِبُونَ‏}‏ بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول، وجوز أن يكون في الفاعل، وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ خرب بمعنى هدم وأفسد، وأخرب ترك الموضع خراباً وذهب عنه، فالإخراب يكون أثر التخريب، وقيل‏:‏ هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة‏.‏ وبالهمزة أخرى ‏{‏فاعتبروا ياأولى الابصار‏}‏ فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى الصائرة سبباً لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أو طانهم مكرهين إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه‏.‏

واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا‏:‏ إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع، ولذا قال ابن عباس في الأسنان‏:‏ اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب ثبتت مشروعية العمل بالقياس، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لَعِبْرَةً لاِوْلِى الابصار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانعام لَعِبْرَةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 66‏]‏ ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال‏:‏ إنه غير معتبر، ولو كان القياس هو الاعتبار لم يصح هذا السلب سلمان لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم‏:‏ إنه إذا قال لوكيله‏:‏ أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم، وإن كان أسود، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاض حيث أطلق لما حسن قولهم‏:‏ اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأموراً به من جهة ما فيه من الانتقال وهو القياس‏.‏

والآيتان على ذلك ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظراً إلى كونه قائساً، وإنما صح ذلك نظراً إلى أمر الآخرة، وأطلق النفي نظراً إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق‏.‏

هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال‏:‏ قالوا‏:‏ إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي، وسوق الآية للاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء‏}‏ أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع ‏{‏لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا‏}‏ بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم، وجلوا عنها خرجوا وبرزوا، ويقال أيضاً‏:‏ جلاهم؛ وفرق بعضهم بين الجلاء والاخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد‏.‏

وقال الماوردي‏:‏ الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة، ويقال فيه‏:‏ الجلأ مهموزاً من غير ألف كالنبأ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح‏.‏ وأخوه علي بن صالح‏.‏ وطلحة، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف، وقد صرح بذلك الرضى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابُ النار‏}‏ استئناف غير متعلق بجواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ أي أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة؛ فليس تمتعهم أياماً قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي ما نزل بهم وما سينزل ‏{‏بِأَنَّهُمْ‏}‏ بسبب أنهم ‏{‏شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ وفعلوا ما فعلوا من القبائح ‏{‏وَمَن يُشَاقّ الله‏}‏ وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال، والاقتصادر على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام، وفيه من تهويل أمرها ما فيه، وليوافق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ وهذه الجملة إما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب، وأياً مّا كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل‏:‏ ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكل من يشاق الله تعالى كائناً من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذاً لهم عقاب شديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ‏}‏ هي النخلة مطلقاً على ما قال الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن زيد‏.‏ وعمرو بن ميمون‏.‏ والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة، وتجمع على ألوان، وقال ابن عباس‏.‏ وجماعة من أهل اللغة‏:‏ هي النخلة ما لم تكن عجوة، وقال أبو عبيدة‏.‏ وسفيان‏:‏ ما تمرها لون وهو نوع من التمر، قال سفيان‏:‏ شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج، وقال أبو عبيدة أيضاً‏:‏ هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برنى، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه‏:‏ هي العجوة، وقال الأصمعي‏:‏ هي الدقل، وقيل‏:‏ هي النخلة القصيرة، وقال الثوري‏:‏ الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين، وجاء جمعها لياناً كما في قول أمرىء القيس‏:‏ وسالفة كسحوق الليا *** ن أضرم فيه القويّ السعر

وقيل‏:‏ هي أغصان الأشجار للينها، وهو قول شاذ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة‏:‏ كأن قنودي فوقها عش طائر *** على لينة سوقاء تهفو جنوبها

ويمكن أن يقال‏:‏ أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى، و‏{‏مَا‏}‏ شرطية منصوبة بقطعتم و‏{‏مّن لّينَةٍ‏}‏ بيان لها، وأنث الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا‏}‏ أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء مّا، وجواب الشرط قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَبِإِذْنِ الله‏}‏ أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل، وقرأ عبد الله‏.‏ والأعمش‏.‏ وزيد بن علي قوماً على وزن فعل كضرب جمع قائم، وقرىء قائماً اسم فاعل مفذكر على لفظ ما، وأبقى أصولها على التأنيث، وقرىء أصلها بضمتين، وأصله ‏{‏أُصُولِهَا‏}‏ فحذفت الواو اكتفاءاً بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف‏.‏

‏{‏وَلِيُخْزِىَ الفاسقين‏}‏ متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك، وجوز فيه أن يكون معطوفاً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏ وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه، والمراد بالفاسقين أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بعلة الحكم، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف‏.‏

قال بعضهم‏:‏ وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقاً مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول‏:‏ السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين، وكان ذلك أو نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا‏:‏ يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها‏؟‏ا فنزلت الآية ‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ‏}‏ الخ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضاً فلتقرير عدم كون القطع فساداً لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذناً بتساويهما في ذلك‏.‏

واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ‏}‏ شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أولئك الكفرة وهم بنو النضير و‏{‏مَا‏}‏ موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف كما أشرنا إليه، والجملة المقترنة بالفاء بعد خبر، ويجوز كونها شرطية، والجملة بعد جواب، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم، والمراد بإعادتها عليه عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلى الله عليه وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 88‏]‏ ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازاً، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلى الله عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئاً للمؤمنين لأن الله عز وجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة‏:‏ فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيهاً على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، و‏{‏أَفَاء‏}‏ على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت ‏{‏مَا‏}‏ شرطية فظاهر، وأما إذا كانت موصولة فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فإن كانت الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بياناً لما يستقبل، وحكم الماضي حكمه، والذي يدل عليه الأخبار أنها نزلت بعد، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل ‏{‏مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ‏}‏ ‏{‏فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ الخ فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ كانت له صلى الله عليه وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا أبا دجانة سماك بن خرشة‏.‏ وسهل بن حنيف‏.‏ والحرث بن الصمة أعطاهم لفقرهم، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر الأولين ولم يذكر الحرث، وكذا لم يذكره ابن سيد الناس، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفاً لابن أبي الحقيق كان له ذكر عندهم، ومعني ‏{‏مَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير، وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب‏:‏ ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم *** إليك ولولا أنت لم توجف الركب

وقال ابن هشام‏:‏ ‏{‏أَوْجَفْتُمْ‏}‏ حركتم وأتعبتم في السير، وأنشد قول تميم بن مقبل‏:‏ مذ أويد بالبيض الحديث صقالها *** عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا

والمآل واحد، و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ خَيْلٍ‏}‏ زائدة في المفعول للتنصيص على الاستغراق كؤنه قيل فما أوجفتم عليه فرداً من أفراد الخيل أصلا ‏{‏وَلاَ رِكَابٍ‏}‏ ولا ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح‏:‏ راكب لمن كان على فرس‏.‏ أو حمار ونحوه بل يقال‏:‏ فارس ونحوه، وإن كان ذلك عاماً لغيره وضعا‏.‏ وإنما لم يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بن النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان على حمار‏.‏ أو على جمل كما تقدم لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدّاً منها، وكان المراد إن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم، ولهذا لم يعط صلى الله عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت، وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء‏}‏ أي ولكن سنته عز وجل جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطاً خاصاً، وقد سلط رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم على هؤلاء تسليطاً غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، ويكون أمرها مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة، وأخرى على غيرها، وقيل‏:‏ الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به الأخبار، والواقع من القتال شيء لا يعتد به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من قرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحق الزخري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم فالجملة جواب سؤال مقدر ناشىء مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلاً يقول‏:‏ قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عز وجل من غيرهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى‏}‏ الخ، ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه، والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن تضمنته حكم الفيء لا الغنيمة ولا الأعم، وفرقوا بينهما قالوا‏:‏ الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة، وما صولحوا عليه من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفاً قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة، وما لمرتد قتل أو مات على ردته، وذمي‏.‏ أو معاهد‏.‏ أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق، والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال، وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس وحكمها مشهور‏.‏

وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضاً نقلاً عن المغرب وغيره فقالوا‏:‏ الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس، وباقيها للغانمين خاصة، والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالهم؛ ونقل هذا الحكم ابن حجر عمن عدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة، والتخميس عنه استدلالاً بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلا راجع إلينا من الكفار، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر، والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية، واعتبرها عامة للمسلمين محتجاً بها على الزبير‏.‏ وبلال‏.‏ وسلمان الفارسي‏.‏ وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه، ووافقه على ما أراد على‏.‏ وعثمان‏.‏ وطلحة‏.‏ والأكثرون بل المخالفون أيضاً بعد أن قال خاطباً‏:‏ اللهم اكفنى بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة، وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين، ولذا قال بعض الشافعية‏:‏ إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق، وما جعله الله تعالى من ذلك لمن تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ إلى ‏{‏ابن السبيل‏}‏ هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية، ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم‏:‏ لمن ذكر الله عز وجل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد، وذكره تعالى كما روي عن ابن عباس‏.‏

والحسن بن محمد بن الحنفية افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في الساموات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته وهو الكعبة المشرفة إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك؛ وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع وهو خمس الخمس وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤونة سنة أي لبعض زوجات ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وسقط عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا‏:‏ لأن عمل الخلفاء الراشدين على ذلك وهم أمناء الله تعالى على دينه ولأن الحكم معلق بوصف مشتق وهو الرسول فيكون مبدأ الاشتقاق وهو الرسالة علة ولم توجد في أحد بعده، وهذا كما سقط الصفى‏.‏

ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ، والأكثرون من الشافعية أن ما كان له صلى الله عليه وسلم من خمس الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور، وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم، وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبراً سعة المال وضيقه، ويقدم الأهم فالأهم وجوباً، وأهمها سد الثغور، ورد سهمه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح‏:‏ «مالي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم» صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف، ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك، وسهم لذي القربى‏.‏ وسهم لليتامى‏.‏ وسهم للمساكين‏.‏ وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس، والمراد بذي القربى قرابته صلى الله عليه وسلم، والمراد بهم بنو هاشم‏.‏

وبنو المطلب لأنه صلى الله عليه وسلم وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، ومن ذريته عثمان‏.‏ وأخيهما لأبيهما نوفل مجيباً عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نحن وبنو المطلب شيء واحد ‏"‏ وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلى الله عليه وسلم جاهلية ولا إسلاماً، وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم حتى كأنهم على قلب رجل واحد قيل‏:‏ لذي القربى دون لذوي بالجمع‏.‏

قال الشافعي‏:‏ يشترك في هذا الشهم الغني والفقير لإطلاق الآية ولإعطائه صلى الله عليه وسلم العباس وكان غنياً، بل قيل‏:‏ كان له عشرون عبداً يتجرون له، والنساء لأن فاطمة‏.‏ وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه، ويفضل الذكر كالارث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظي الأنثى، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما، ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالإرث، ويثبت كون الرجل هاشمياً أو مطلبياً بالبينة، وذكر جمع أنه لا بد معها من الاستفاضة، ويقول الشافعي قال أحمد، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم إن كان أمره أهم من أمرهم‏.‏

وقال المزني‏.‏ والثوري‏:‏ يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاضي والداني ممن له قرابة، والغني والفقير سواء لإطلاق النص، ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الاشتقاق، وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم‏.‏ وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقاً، وإنما يعطي مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في ‏{‏اليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهماً مخصوصاً، وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم‏:‏ سهم لليتامى‏.‏ وسهم للمساكين‏.‏ وسهم لابن السبيل، وعلي كرم الله تعالى وجهه في خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل، ويحمل على الرجوع إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول‏:‏ سهم ذوي القربى على ما حكى عن الشافعي، وفائدة ذكره على القول بأن استحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلاً لا يستحق شيئاً لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، ومن تتبع الأخبار وجد فيها اختلافاً كثيراً؛ ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقاً، وهو رأي علماء أهل البيت، واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أن كلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار عندنا على صنف واحد كأن يعطي تمام الخمس لابن السبيل وحده مثلاً‏.‏

والكلام مستوفى في «شروح الهداية» والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية‏:‏ اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له جد، ويشترط إسلامه وفقره، أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة، وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم عدم حرمانهم لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا، والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غنى بنفقته في بيت المال، ولا بد في ثبوت اليتيم والإسلام والفقر هنا من البينة، ويكفي في المسكين‏.‏

وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين‏.‏ وإن اتهما، نعم يظهر في مدعى تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى، واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي‏.‏

هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف وهو شافعي بعد أن اختار جعل ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ بدلا من ‏{‏القربى واليتامى‏}‏ وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9- 10‏]‏ على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره، وقال‏:‏ إنها للمقاتلين الآن على الأصح، وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم يوجد تبرع، والمرتزقة الأجناد الموصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلى الله عليه وسلم، وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس، فجملة ما كان يأخذه صلى الله عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهماً من خمسة وعشرين، وكان على ما قال الروياني‏:‏ يصرف العشرين التي له عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوباً في قول وندبا في آخر، وقال الغزالي‏:‏ كان الفيب كله له صلى الله عليه وسلم في حياته، وإنما خمس بعد وفاته‏.‏

وقال الماوردي‏:‏ كان له صلى الله عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها، وقال الزمخشري‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَفَاء الله‏}‏ الخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 6‏]‏ ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة، وظاهره أن الجملة استئناف بياني، والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلى الله عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالاً معتداً به، وأخذت عنوة وقهراً كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من الغنائم هو الكل لا أن خمسه كذلك والباقي وهو أربعة أخماسه لمن تضمنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏والذين‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏ على ما سمعت سابقاً، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 6‏]‏ أعني بني النضير، وعدل عن الضمير إلى ذلك على ما في الإرشاد إشعاراً بشمول ما في ‏{‏مَّا أَفَاء الله‏}‏ لعقاراتهم أيضاً، واعترض صاحب الكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلى الله عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم، ووجه الآية بما أيد به مذهبه، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر‏.‏

وقال ابن عطية ‏{‏أَهْلَ القرى‏}‏ المذكورورن في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن تلك كلها له صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذه قسمها كغيرها، وقيل‏:‏ المراد بما أفاء الله على رسوله خيبر، وكان نصفها لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك الكتيبة‏.‏ والوطيح‏.‏ وسلالم‏.‏ ووخدة، وكان الذي للمسلمين الشق، وكان ثلاثة عشر سهماً، ونطاة وكانت خمسة أسهم، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن صلى الله عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله ابن عمرو الأنصاري، وروي هذا عن ابن عباس، وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج‏.‏

وعن الزهري أنه قال‏:‏ بلغني أنه ذلك، وأنت قد سمعت أن عمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على إبقاء سواد العراق بأيادي أهله، وضرب الخراج والجزية عليهم رداً على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم‏.‏

وفي إعادة اللام في الرسول‏.‏ وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الاعتناء، وفيه على ما قيل‏:‏ تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهيهما، ووجه إفراد ذي القربى قد ذكرناه غير بعيد ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قيل‏:‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ بالأفراد كما قيل‏:‏ ‏{‏وَلِذِى القربى‏}‏ وعلى ذلك قوله‏:‏ أيا جارتا إنا غريبان ههنا *** وكل غريب للغريب نسيب

‏{‏كَى لاَ يَكُونَ‏}‏ تعليل للتقسيم، وضمير ‏{‏يَكُونَ‏}‏ لما أفاء الله تعالى أي كي لا يكون الفيء ‏{‏دُولَةً‏}‏ هي بالضم، وكذا بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد والغلبة، وقال الكسائي‏.‏ وحذاق البصرة‏:‏ الدولة بالفتح في الملك بالضم، والدولة بالضم في الملك بالكسر، أو بالضم في المال‏.‏

وبالفتح في النصرة قيل‏:‏ وفي الجاه، وقيل‏:‏ هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف‏.‏ وبالفتح مصدر بمعنى التداول، والراغب‏.‏ وعيسى بن عمر‏.‏ وكثير أنهما بمعنى واحد، وجمهور القراء قرأوا بضم الدال والنصب، وبالياء التحتية في يكون على أن اسم ‏{‏يَكُونَ‏}‏ الضمير، و‏{‏دُولَةً‏}‏ الخبر أي كي لا يكون الفيء جدّاً ‏{‏بَيْنَ الاغنياء مِنكُمْ‏}‏ أي بينهم خاصة يتكاثرون به، أو كي ‏{‏لاَ يَكُونَ دُولَةً‏}‏ وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عزيز، وقيل‏:‏ المعنى كي لا يكون شيئاً يتداوله الأغنياء خاصة بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحداً من الفقراء‏.‏

وقرأ عبد الله تكون بالتاء الفوقية على أن الضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال، وقرأ أبو جعفر‏.‏ وهشام كذلك؛ ورفع ‏{‏دُولَةً‏}‏ بضم الدال على أن كان تامة، و‏{‏دُولَةً‏}‏ فاعل أي كي لا يقع دولة، وقرأ عليه‏.‏ والسلمي كذلك أيضاً، ونصب ‏{‏دُولَةً‏}‏ بفتح الدال على أن كان ناقصاً اسمها ما سمعت، و‏{‏دُولَةً‏}‏ خبرها، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه، ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء، وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عز وجل سهماً، وكذا يجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يسمى فقيراً، وما اشتهر من قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ الفقر فخري ‏"‏ لا أصل له، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وهو صلى الله عليه وسلم أحب خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين‏:‏ لا يقال له صلى الله عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلاً عن طلبها اللازم للترك، وقيل‏:‏ إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الانقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عز وجل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه ربما يكون دليلاً على القول بأنه لا يعطي أغنياء ذوي القربى، وإنما يعطي فقراؤهم، وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه شيء منه فقيراً ‏{‏وَمَا ءاتاكم الرسول‏}‏ أي ما أعطاكم من الفيء ‏{‏فَخُذُوهُ‏}‏ لأنه حقكم الذي أحله الله تعالى لكم ‏{‏وَمَا نهاكم عَنْهُ‏}‏ أي عن أخذه منه ‏{‏فانتهوا‏}‏ عنه ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في مخالفته عليه الصلاة والسلام ‏{‏أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ فيعاقب من يخالفه صلى الله عليه وسلم، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام، وفي «الكشاف» الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في العموم، وذلك لعموم لفظ ‏{‏مَا‏}‏ على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل، ولذلك عقب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ تعميماً فيتناول كل ما يجب أن يتقي؛ ويدخل ما سيق له الكلام دخولاً أولياً كدخوله في العموم الأول، وروى ذلك عن ابن جريج‏.‏

وأخرج الشيخان‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ «لُعِنَ الله تَعَالَى الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أءلاه مَّعَ الله تَعَالَى» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن‏:‏ فأتته فقالت‏:‏ بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال‏:‏ ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت‏:‏ لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال‏:‏ إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا‏}‏‏؟‏ قالت‏:‏ بلى، قال‏:‏ فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه، وعن الشافعي أنه قال‏:‏ سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن محمد بن هرون‏:‏ ما تقول في المحرم يقتل الزنبور‏؟‏ فقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا‏}‏‏.‏

وحدثنا سفيان بن عينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعم» وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور، وهذا من غريب الاستدلال، وفيه على علاته ككلام ابن مسعود حمل ما في الآية على العموم، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضاً، قيل‏:‏ والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه، والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكم له، قيل‏:‏ والأول أقرب لأنه لا يقال‏:‏ أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى، واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمراً ولا نهياً لا يجب تركه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏لِلْفُقَرَاء المهاجرين‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ بدل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَا القربى‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ والمعطوف عليه، والذي منع الإبدال من ‏{‏لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ وما بعد وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عز وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظاً لأن فيه سوء أدب انتهى‏.‏

وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر، قال الإمام‏:‏ فكأنه قيل‏:‏ أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين، وما ذكر من الإبدال من ‏{‏ذَا القربى‏}‏ وما بعده مبني على قول الحنفية إنه لا يعطي الغني من ذوي القربى وإنما يعطي الفقير، ومن يرى كالشافعي أنه يعطي غنيهم كما يعطي فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده، وقيل‏:‏ يجوز ذلك أيضاً إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقير بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنياً شيئاً منه، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر‏.‏

وفي «الكشف» أن ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ ليس للقيد بل بياناً للواقع من حال المهاجرين وإثباتاً لمزيد اختصاصهم كأنه قيل‏:‏ لله وللرسول وللمهاجرين، وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ الخ بيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجروراً بها لتبيين أن البدل هو منها، وقيل‏:‏ اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنياء مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ كأنه قيل‏:‏ ولكن يكون للفقراء المهاجرين‏.‏

وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناءاً على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب ‏{‏الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم‏}‏ حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الخروج فخرجوا منها، وهذا وصف باعتبار الغالب، وقيل‏:‏ كان هؤلاء مائة رجل ‏{‏يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً‏}‏ أي طالبين منه تعالى رزقاً في الدنيا ومرضاة في الآخرة، وصفوا أولاً بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال، وقيد ذلك ثانياً بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلام ‏{‏وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ عطف على ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة ‏{‏أولئك‏}‏ الموصون بما ذكر من الصفات الجليلة ‏{‏هُمُ الصادقون‏}‏ أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك، وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك فيه الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة، ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان‏}‏ الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار؛ والتبوّؤ النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل؛ ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقراً ومتوطناً على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى داراً وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوّؤهم إياها مدحاً لهم‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ الكلام من باب

علفتها تبناً وماءاً بارداً *** أي تبوأوا الدار وأخلصوا الايمان، وقيل‏:‏ التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل‏:‏ لزموا الدار والايمان، وقيل‏:‏ في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة وفي ‏{‏والإيمان‏}‏ حذف مضاف أي ودار الايمان فكأنه قيل‏:‏ تبوأوا دار الهجرة ودار الايمان على أن المراد بالدارين المدنية، والعطف كما في قولك‏:‏ رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيداً، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقيل‏:‏ إن الايمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى، وقيل‏:‏ الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين، وهو أيضاً ليس بشيء، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولاً، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة‏.‏ وطابة‏.‏ ويثرب‏.‏ وجابرة إلى غير ذلك‏.‏

وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثاً مرفوعاً يدل على ذلك ‏{‏مِن قَبْلِهِمُ‏}‏ أي من قبل المهاجرين، والجار متعلق بتبوأوا، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال‏:‏ إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال‏:‏ ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فهي لما أظهروه‏.‏

وقيل‏:‏ الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير تبوأوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبوىء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا؛ وقيل‏:‏ لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوىء الأنصاري وإيمانهم على تبوىء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو ههنا تبوؤ الدار، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال‏:‏ بتقدم تبوىء المهاجرين وإيمانهم على تبوىء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين ‏{‏يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ‏}‏ في موضع الحال من الموصول، وقيل‏:‏ استئناف، والكلام قيل‏:‏ كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، وقيل‏:‏ على ظاهره أي يحبون المهاجرين إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الايمان ‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ‏}‏ أي ولا يعلمون في أنفسهم‏.‏

‏{‏حَاجَةً‏}‏ أي طلب محتاج إليه ‏{‏مّمَّا أُوتُواْ‏}‏ أي مما أعطى المهاجرون من الفيء وغيره، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز، والحاجة بمعنى المحتاج إليه، وهو استعمال شائع يقال‏:‏ خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته، و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس‏.‏

ويجوز أن كيون المعنى لا يجدون في أنفسهم مايحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطى المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها، وقيل‏:‏ على أنها كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم، وما تقدم أولى، وقول بعضهم‏:‏ أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب، و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّمَّا أُوتُواْ‏}‏ تعليلية ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ‏}‏ أي يقدمون المهاجرين ‏{‏عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحداً منهم، ويجوز أن لا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين، أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم عن أبي هريرة قال‏:‏ أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله‏؟‏ فقام رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة‏:‏ أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته‏:‏ أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ والله ما عندي إلا قوت الصبية قال‏:‏ إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فاطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ‏}‏ ‏"‏ الخ‏.‏

وأخرج الحاكم وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في «الشعب» عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال‏:‏ أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال‏:‏ إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏ أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقي بين عيدانه من الفرج والفتوح، والجملة في موضع الحال، وقد تقدم وجه ذلك مراراً ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏}‏ الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال‏:‏

يمارس نفساً بين جنبيه كزة *** إذا هم بالمعروف قالت له مهلاً

وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، وقال الراغب‏:‏ الشح بخل مع حرص؛ وذلك فيما كان عادة، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال‏:‏ البخل أن يبخل الإنسان بمافي يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في «الشعب»‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وجماعة عن ابن مسعود أن رجلاً قال له‏:‏ إني أخاف أن يكون قد هلكت قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ إني سمعت الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏}‏ الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود‏:‏ ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره الله تالى أن تأكل مال أخيك ظلماً، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ ليس الشح أن يمنع الرجل ما له ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، ولم أر لأحد من اللغويين شيئاً من هذه التفاسير للشح، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلماً أو تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏وَمَن يُوقَ‏}‏ بشدّ القاف، وقرأ ابن عمر‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏شُحَّ‏}‏ بكسر الشين، وجاء في لغة الفتح أيضاً، ومعنى الكل واحد، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الانفاق ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولاً أولياً، وفي الإفراد أولاً والجمع ثانياً رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عدداً وكثرتهم معنى‏:‏

والناس ألف منهم كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا

ويفهم من الآية ذم الشح جداً، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه، أخرج الحكيم الترمذي‏.‏ وأبو يعلى‏.‏ وابن مردويه عن أنس مرفوعاً

‏"‏ ما محق الإسلام محق الشح شيء قط ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ والنسائي‏.‏ والبيهقي في «الشعب»‏.‏ والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعاً ‏"‏ لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبداً ولا يجتمع الايمان والشح في قلب عبد أبداً ‏"‏‏.‏

وأخرج أبو داود‏.‏ والترمذي وقال غريب والبخاري في الأدب‏.‏ وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً ‏"‏ خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق ‏"‏ وأخرج ابن أبي الدنيا‏.‏ وابن عدي‏.‏ والحاكم‏.‏ والخطيب عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها‏:‏ انطقي فقالت‏:‏ قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل‏:‏ وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ ‏"‏‏.‏

وأخرج أحمد‏.‏ والبخاري في «الأدب»‏.‏ ومسلم‏.‏ والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ‏"‏ إلى غير ذلك من الأخبار، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جواداً بكل شيء، فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ وأبو يعلى‏.‏ والطبراني‏.‏ والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعاً ‏"‏ برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة ‏"‏‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه، وكذا ابن جرير‏.‏ والبيهقي عن أنس، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ عطف عند الأكثرين أيضاً على ‏{‏المهاجرين‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏، والمراد بهؤلاء قيل‏:‏ الذين هاجروا حين قوي الإسلام، فالمجيء حسي وهو مجيئيهم إلى المدينة، وضمير ‏{‏مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ للمهاجرين الأولين، وقيل‏:‏ هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان وضمير ‏{‏مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ للفريقين المهاجرين والأنصار، وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين، وجملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ الخ حالية، وقيل‏:‏ استئناف‏.‏

‏{‏رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا‏}‏ أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب ‏{‏الذين سَبَقُونَا بالإيمان‏}‏ وصفوهم بذلك اعترافاً بفضلهم ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ‏}‏ أي حقداً، وقرىء غمراً ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ على الإطلاق ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي مبالغ في الرأفة والرحمة، فحقيق بأن تجيب دعاءنا، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية ‏{‏والذين جَاءوا‏}‏ الخ‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه فقرأ عليه ‏{‏لِلْفُقَرَاء المهاجرين‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏ الآية، ثم قال‏:‏ هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت‏؟‏ قال‏:‏ لا، ثم قرأ عليه ‏{‏والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ الآية، ثم قال‏:‏ هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ ثم قرأ عليه ‏{‏والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ أفمن هؤلاء أنت‏؟‏ قال‏:‏ أرجو قال‏:‏ لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء‏.‏

وفي رواية أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلاً نال من عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال، وقال الإمام مالك‏:‏ من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قول سيء أو بغض فلاحظ له في الفىء أخذاً من هذه الآية، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين، وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي‏.‏ والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ في أيام ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال مستكشفاً حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له‏:‏ ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله‏:‏ هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق وفي رواية أنه قال‏:‏ لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيته لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد الله‏:‏ لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها والله لقد فضلك الله تعالى علينا فضلاً بيناً»

هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تبوأوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ الخ مبتدأ، وجملة ‏{‏هؤلاء يُحِبُّونَ‏}‏ الخ خبره، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار، وجوز كون ذلك معطوفاً على ‏{‏أولئك‏}‏ فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق، وجملة ‏{‏يُحِبُّونَ‏}‏ الخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال من ضمير ‏{‏تبوأوا‏}‏ وإلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المفلحون والذين جَاءوا‏}‏ الخ مبتدأ؛ وجملة ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ الخ خبره، والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار‏.‏

واستدل لعدم عطف ‏{‏الذين تبوأوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ على ‏{‏لِلْفُقَرَاء المهاجرين‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏ بما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم، وقال عليه الصلاة والسلام لهم‏:‏ «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا‏:‏ بل نقسم لهم أي للمهاجرين من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» فنزلت الآية ‏{‏والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان‏}‏ إلى آخره، وبعض القائلين بالعطف يقولون‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏ الخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسن اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف، ولكن قد اختار صلى الله عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم، وهم اختاروا ما اختاروا إيثاراً منهم، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفاً بل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ رمز إليه على أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على ما تقدم، وأنهم يعطون من الفيء، وكذا عطف الذين جاءوا من بعدهم فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن حبان‏.‏ وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في حديث طويل أن عمر رضي الله تعالى عنه قال أي في قضاء بين علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وعمه العباس رضي الله تعالى عنه في فدك، وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن يعملا فيها بما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعمل به فيها فتنازعا إن الله تعالى قال‏:‏

‏{‏مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء والله على كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 6‏]‏ فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فالله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ إلى آخر الآية، ثم والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله ورضوانا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏، ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر، ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه، وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمهاجرين سهماً غير السهام السابقة، فلا يكون ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ بدل من لذي القربى وما بعده ولا مما بعده دونه، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد الله‏.‏ وزيد بن ثابت كما أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فاللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله على أن الإبدال يقتضي ظاهراً كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات، وفي صدق ذلك عليهم بعد، وكذا يقتضي كون ابن السبيل كذلك، وفيه نوع بعد أيضاً كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعال‏:‏ ‏{‏فالله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا‏:‏ فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية‏.‏ أو فلمن يكون الباقي‏؟‏ فقيل‏:‏ تكون الأخماس الأربعة الباقية أو يكون الباقي ‏{‏لِلْفُقَرَاء المهاجرين‏}‏ إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل، والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك‏.‏